كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله}، يعني: صرفوا الناس عن دين الإسلام.
{والمسجد الحرام}؛ يعني: وعن المسجد الحرام.
وهذه الآية مدنية، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج مع أصحابه من الحديبية، منعهم المشركون عن المسجد الحرام.
ثم وصف المسجد الحرام، فقال: {الذى جعلناه لِلنَّاسِ سَواء}، يعني: عامًا للمؤمنين جميعًا {العاكف فِيهِ والباد}، يعني: سواء المقيم في الحرم، ومن دخل مكة من غير أهلهما؛ ومعناه المقيم والغريب فيه سواء؛ ويقال: في تعظيمه وحرمته؛ ويقال: المسجد الحرام أراد به جميع الحرم المقيم وغيره، في حق النزول سواء.
وقال عمر رضي الله عنه: يا أهل مكة، لا تتخذوا لدوركم أبوابًا، لينزل البادي حيث يشاء.
ولهذا قال أبو حنيفة: إن بيع دور مكة لا يجوز.
وفي إحدى الروايتين يجوز، وهذا قول أبي يوسف، والأول قول محمد.
قرأ عاصم في رواية حفص {سَواء} بالنصب، يعني: جعلناه سواء، وقرأ الباقون {سَواء} بالضم على معنى الابتداء.
ثم قال: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ}، وهو الظلم والميل عن الحق؛ ويقال: أصله ومن يرد فيه إلحادًا، فزيد فيه الباء، كما قال: {تَنبُتُ بالدهن}، ويقال: من اشترى الطعام بمكة للاحتكار، فقد ألحد.
{بِظُلْمٍ}، يعني: بشرك أو بقتل.
{نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}، أي مؤلم.
قال الزجاج: الإلحاد في اللغة العدول عن القصد، وقال مقاتل: نزلت الآية في عبد الله بن أنيس بن خطل القرشيّ، وذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعث رجلين أحدهما مهاجريّ، والآخر أنصاريّ، فافتخرا في الأنساب، فغضب عبد الله بن أنس، فقتل الأنصاري، ثم ارتد عن الإسلام، وهرب إلى مكة. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة بقتله، فقتل.
قرأ أبو عمرو: {وَالبَادِي} بالياء عند الوصل، وكذلك نافع في رواية ورش، وقرأ حمزة والكسائي وابن عامر بغير ياء في الوصل والقطع، وقرأ ابن كثير بالياء في الوصل والقطع. وهو الأصل في اللغة. ومن أسقطه، لأن الكسر يدل عليه.
قوله عز وجل: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإبراهيم مَكَانَ البيت}، قال مقاتل: يعني: دللنا لإبراهيم موضع البيت، فبناه مع إسماعيل عليهما السلام ولم يكن له أثر ولا أساس البيت، لأن البيت كان أيام الطوفان مرفوعًا، قد رفعه الله إلى السماء وهو البيت المعمور؛ وقال الكلبي: {وَإِذْ بَوَّأْنَا} أي جعلنا لإبراهيم مكان البيت يتكلم، فيقول: بموضع البيت.
جعله الله منزلًا لإبراهيم، بعث الله تعالى سحابة على قدر البيت فيها رأس يتكلم، فيقول: يا إبراهيم، ابن علي قدري وحيالي، فأسس عليها البيت، وذهبت السحابة.
ثم بناه حتى فرغ منه، فأوحى الله تعالى إليه: {أَن لاَّ تُشْرِكْ بِى شَيْئًا}؛ وقال أبو قلابة: بناه من خمسة أجبل: حراء، وثبير، وطور سيناء، ولبنان، وجبل أحد؛ وقال الزجاج: {وَإِذْ بَوَّأْنَا}، أي جعلنا مكان البيت مبوأ لإبراهيم.
والمبوأ المنزل، يعني أن الله تعالى علم إبراهيم عليه السلام مكان البيت، فبناه على أسه القديم، وكان البيت قد رفع إلى السماء.
قال: ويروى أن البيت الأول كان من ياقوتة حمراء.
وروي عن ابن عباس أنه قال: رفع السماء إلى السادسة، يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك، وهو بحيال الكعبة. ثم قال؛ {وَطَهّرْ بَيْتِىَ}، يعني: أوحى الله تعالى إلى إبراهيم أن طهر بيتي من النجاسات ومن عبادة الأوثان {للطائفين}، يعني: لأجل الطائفين بالبيت من غير أهل مكة {والقائمين}، يعني: المقيمين من أهل مكة {والركع السجود}، يعني: أهل الصلاة بالأوقات من كل وجه.
ثم قال الله عز وجل: {وَأَذّن في الناس بالحج}، يعني: ناد في الناس، وذلك أن إبراهيم لما فرغ من بناء الكعبة، أمره الله تعالى أن ينادي، فصعد إبراهيم على أبي قبيس ونادى: يا أيها الناس، أجيبوا ربكم.
إن الله تعالى قد بنى بيتًا وأمركم بأن تحجوه؛ وقال مجاهد: فقام إبراهيم على المقام، فنادى بصوت أسمع من بين المشرق والمغرب: يا أيها الناس، أجيبوا ربكم، فأجابوه من أصلاب الرجال: لبيك.
قال: فإنما يحج من أجاب إبراهيم يومئذٍ؛ ويقال: التلبية اليوم جواب الله عز وجل من نداء إبراهيم عن أمر ربه، فذلك قوله: {يَأْتُوكَ رِجَالًا}، يعني: على أرجلهم مشاة {وعلى كُلّ ضَامِرٍ}، يعني: على الإبل وغيرها. فلا يدخل بعيره ولا غيره الحرم، إلا وقد ضمر من طول الطريق.
{يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ}، أي من نواحي الأرض {عَميِقٍ}، يعني: بعيد.
وقال مجاهد: الفج الطريق، والعميق البعيد، وقال: إن إبراهيم وإسماعيل.
عليهما السلام حجا ماشيين؛ وقال ابن عباس: ما آسى على شيء، إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيئًّا، لأن الله تعالى قال: {يَأْتُوكَ رِجَالًا وعلى كُلّ ضَامِرٍ}.
قال الفقيه أبو الليث: هذا إذا كان بيته قريبًا من مكة؛ فإذا حج ماشيئًّا، فهو أحسن.
وأما إذا كان بيته بعيدًا، فالركوب أفضل.
وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: الراكب أفضل، لأن في المشي يتعب نفسه ويسوء خلقه.
وإن كان الرجل يأمن على نفسه أن يصبر، فالمشي أفضل، لأنه روي في الخبر أن الملائكة عليهم السلام تتلقى الحاج، فيسلمون على أصحاب المحامل، ويصافحون أصحاب البعير والبغال والحمير ويعانقون المشاة.
ثم قال عز وجل: {لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ}، يعني: الأجر في الآخرة في مناسكهم؛ ويقال: وليحضروا مناحرهم وقضاء مناسكهم.
{وَيَذْكُرُواْ اسم الله}، يعني: ولكي يذكروا الله {في أَيَّامٍ معلومات}، يعني: يوم النحر ويومين بعده؛ وقال مجاهد وقتادة: المعلومات أيام العشر، والمعدودات أيام التشريق؛ وقال سعيد بن جبير: كلاهما أيام التشريق؛ ويقال: المعلومات أيام النحر، والمعدودات أيام التشريق، وهو طريق الفقهاء وأشبه بتأويل الكتاب، لأنه ذكر في أيام معلومات الذبح، وذكر في أيام معدودات الذكر عند الرمي، ورخص بتركه في اليوم الآخر بقوله: {واذكروا الله في أَيَّامٍ معدودات فَمَن تَعَجَّلَ في يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203].
ثم قال: {على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام}، يعني: ليذكروا اسم الله عند الذبح والنحر على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وهو البقر والإبل والغنم.
ثم قال: {فَكُلُواْ مِنْهَا}، يعني: من لحوم الأنعام، {وَأَطْعِمُواْ البائس الفقير}؛ يعني: الضرير والزمن والفقير، الذي ليس له شيء؛ وقال الزجاج: البائس الذي أصابه البؤس وهو الشدة.
قوله عز وجل: {ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ}، يعني: مناسكهم؛ وقال مجاهد: التفث حلق الرأس وتقليم الأظفار.
وروي عن عطاء، عن ابن عباس وقال: التفث: الرمي، والحلق، والتقصير، وحلق العانة، ونتف الإبط، وقص الأضافير، والشارب، والذبح.
وروى نافع، عن ابن عمر رضي الله عنه قال: التفث: ما عليه من المناسك؛ وقال الزجاج: التفث، لا يعرف أهل اللغة ما هو؛ وإنما عرفوا في التفسير، وهو الأخذ من الشارب، وتقليم الأظافر، والأخذ من الشعر، كأنه الخروج من الإحرام إلى الإحلال.
ثم قال: {وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ}، يقول: من كان عليه نذر في الحج والعمرة مما أوجب على نفسه من هدي أو غيره؛ فإذا نحر يوم النحر، فقد أوفى بنذره.
ثم قال: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق}، يعني: طواف الزيارة، بعدما حلق رأسه أو قصر؛ وقال مقاتل: {العتيق} يعني: عتقه في الجاهلية من القتل والسبي والجراحات، وغيرها؛ وقال الحسن: {العتيق} يعني: القديم، كما قال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِى بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى للعالمين} [آل عمران: 96]؛ وقال مجاهد: عتيق، يعني: أعتق من الجبابرة، ويقال: أعتق من الغرق يوم الطوفان؛ وهذا قول الكلبي؛ وقرأ حمزة والكسائي وعاصم: {لْيَقْضُواْ} بجزم اللام وكذلك {وَلْيُوفُواْ}؛ وقرأ أبو عمرو الثلاثة كلها بالكسر، بمعنى لام كي؛ وقرأ ابن كثير بكسر اللام الأولى خاصة.
فمن قرأ بالجزم، جعلها أمر الغائب؛ ومن قرأ بالكسر، جعله خبرًا عطفًا على قوله: {لّيَذْكُرُواْ}.
وقرأ عاصم في رواية أبي بكر {وَلْيُوفُواْ} بنصب الواو وتشديد الفاء، وقرأ الباقون بالتخفيف من أوفى يوفي، والأول من وفي يوفّي؛ ومعناهما واحد.
ثم قال عز وجل: {ذلك}، يعني: هذا الذي ذكر من أمور المناسك.
ثم قال: {وَمَن يُعَظّمْ حرمات الله}، يعني: أمر المناسك كلها، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبّهِ}؛ يعني: أعظم لأجره، {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام}؛ يعني: الإبل والبقر والغنم وغيره.
{إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} في التحريم في سورة المائدة.
{فاجتنبوا الرجس مِنَ الاوثان}، يعني: اتركوا عبادة الأوثان، {واجتنبوا}؛ يعني: اتركوا {قَوْلَ الزور}، يعني: الكذب؛ وهو قولهم: هذا حلال وهذا حرام؛ ويقال: معناه اتركوا الشرك؛ ويقال: اتركوا شهادة الزور.
ثم قال عز وجل: {حُنَفَاء للَّهِ}، يعني: مخلصين مسلمين لله؛ ويقال: معناه كونوا مخلصين بالتلبية، لأن أهل الجاهلية كانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك.
ويقال: إن هذا القول بالزور الذي أمرهم الله باجتنابه.
ثم قال: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السماء}، أي وقع من السماء، {فَتَخْطَفُهُ الطير}، يعني: تختلسه الطير، {أَوْ تَهْوِى بِهِ الريح}، يعني: تذهب به الريح {في مَكَانٍ سَحِيقٍ}، يعني: بعيد؛ فكذلك الكافر في البعد من الله عز وجل؛ ويقال: معناه من يشرك بالله، فقد ذهب أصله.
وقال الزجاج: الخطف هو أخذ الشيء بسرعة، فهذا مثل ضربه الله عز وجل للكافرين في بعدهم من الحق، فأخبر أن بعد من أشرك من الحق، كبعد من خر من السماء، فذهبت به الطير وهوت به الريح في مكان {سَحِيقٍ}، يعني: بعيد.
قرأ نافع: {فَتَخْطَفُهُ الطير} بنصب الخاء والتشديد، وقرأ الباقون بالجزم والتخفيف من خطف.
ومن قرأ بالتشديد، فلأن أصله فتخطفه فأدغم التاء في الطاء، وألقيت حركة التاء على الخاء.
ثم قال عز وجل: {ذلك}، يقول هذا الذي أمر من اجتناب الأوثان.
{وَمَن يُعَظّمْ شعائر الله}، يعني: البدن فيذبح أعظمها وأسمنها.
وروي عن ابن عباس أنه قال: تعظيمها استعظامها، وأيضًا استسمانها واستحسانها.
ثم قال: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب}، يعني: من إخلاص القلوب؛ ويقال: من صفاء القلوب، وشعائر الله: معالم الله ودينه، ندب الله إليها وأمر بالقيام بها، وواحدها شعيرة.
قوله عز وجل: {لَكُمْ فِيهَا منافع}، يعني: في البدن؛ وقال مجاهد: يعني: في ركوبها وشرب ألبانها وأوبارها.
{إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى}، يعني: إلى أجَلٍ مسمًّى بدنًا، فمحلها إلى البيت العتيق.
وروي عن ابن عباس نحو هذا قول بعض الناس: إنه يجوز ركوب البدن؛ وقال أهل العراق: لا يجوز إلا عند الضرورة، ويضمن ما نقصها الركوب، وهذا القول أحوط الوجهين.
{ثُمَّ مَحِلُّهَا إلى البيت العتيق}، يعني: منحرها في الحرم.
وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جَمِيعُ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ».
ثم قال عز وجل: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ}، أي لكل أهل دين؛ ويقال: لكل قوم من المؤمنين فيما خلا، {جَعَلْنَا مَنسَكًا}؛ يعني: ذبحًا لهراقة دمائهم؛ ويقال: مذبحًا يذبحون فيه.
قال الزجاج: معناه جعلنا لكل أمة أن تتقرب بأن تذبح الذبائح لله تعالى.
قرأ حمزة والكسائي {مَنسَكًا} بكسر السين، وقرأ الباقون بالنصب.
فمن قرأ بالكسر، يعني: مكان النسك؛ ومن قرأ بالنصب، فعلى المصدر؛ وقال أبو عبيد: قرأءتنا هي بالنصب لفخامتها.
ثم قال: {لّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ الأنعام}، يعني: يذكرون اسم الله تعالى عند الذبح.
{فإلهكم إله واحد}، أي ربكم رب واحد.
{فَلَهُ أَسْلِمُواْ}، يعني: أخلصوا بالتسمية عند الذبيحة وفي التلبية.
{وَبَشّرِ المخبتين}، يعني: المخلصين بالجنة؛ ويقال: {المخبتين} المجتهدين في العبادة والسكون فيها.
قال قتادة: المخبتون المتواضعون؛ وقال الزجاج: أصله من الخبت من الأرض، وهو المكان المنخفض من الأرض؛ ويقال: المخبت الذي فيه الخصال التي ذكرها الله بعده، وهو قوله: {الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ}، يعني: خافت قلوبهم {والصابرين على مَا أَصَابَهُمْ} من أمر الله من المرازي والمصائب {الذين إِذَا} يعني: يقيمونها بمواقيتها، {وَمِمَا رزقناهم يُنفِقُونَ}؛ يعني: يتصدقون وينفقون في الطاعة. ثم ذكر البدن، يعني: ينحرون البدن.
فهذه الخصال الحسنة صفة المخبتين.
قوله عز وجل: {والبدن جعلناها لَكُمْ}؛ قرأ بعضهم: {والبدن} بضم الدال والباء، وقراءة العامة بسكون الدال والمعنى واحد.
{مِن شَعَائِرِ الله}، يعني: جعلنا البدن من مناسك الحج.
{لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}، يعني: في نحرها أجر في الآخرة ومنفعة في الدنيا.
{فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَافَّ}، يعني: إذا نحرتم، فاذكروا اسم الله عليها {صَوَافَّ} أي قائمة قد صفت قوائمها.
والآية تدل على أن الإبل تنحر قائمة.
وروي عن عبد الله بن عمر، أنه أمر برجل قد أناخ بعيره لينحره، فقال له: انحره قائمًا، فإنه صفة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم، وروي عن ابن مسعود، وابن عباس أنهما كانا يقرآن {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا}، والصوافن التي تقوم على ثلاثة قوائم، إذا أرادوا نحره، تعقل إحدى يديه فهو الصافن، وجماعته صوافن؛ وقال مجاهد: من قرأ {صوافن} قال: قائمة معقولة. من قرأها {صواف} قال يصف بين يديها.
وروي عن زيد بن أسلم أنه قرأ {صوافي} بالياء منتصبة، ويقال: خالصة من الشرك؛ وروي عن الحسن مثله وقال: خالصة لله تعالى، وهكذا روى عنهما أبو عبيدة، وحكى القتبي عن الحسن قال: كان يقرأ {عَلَيْهَا صَوَافَّ} مثل قاض وغاز أي خالصة لله تعالى، يعني: لا تشرك به في حال التسمية على نحرها.
ثم قال: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا}، يعني: إذا ضربت بجنبيها على الأرض بعد نحرها، يقال: وجب الحائط إذا سقط، ووجب القلب إذا تحرك من الفزع؛ ويقال: وجب البيع إذا أبرم.
{فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر}، فالقانع الراضي الذي يقنع بما أعطي وهو السائل والمعتر الذي يتعرض للمسألة ولا يتكلم؛ ويقال: القانع المتعفف الذي لا يسأل ويقنع بما أرسلت إليه والمعتر: السائل الذي يعتريك للسؤال.
وقال الزهري: السنة أن يأكل الرجل من لحم أضحيته قبل أن يتصدق، وروي عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لِيَأْكُلْ أَحَدُكُمْ مِنْ لَحْمِ أُضْحِيَتِه».
وروى منصور، عن إبراهيم قال: كان المشركون لا يأكلون من ذبائحهم، فرخص للمسلمين بقوله: {فَكُلُواْ مِنْهَا فَمَن شَاء أَكَلَ وَمَن شَاء لَمْ يَأْكُلُ}.
قال الفقيه أبو الليث رحمه الله: والأفضل أن يتصدق بثلثه على المساكين، ويعطي ثلثه للجيران والقرابة أغنياء كانوا أو فقراء ويمسك لنفسه ثلثه. وروي عن ابن مسعود نحو هذا.
وروي عن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن القانع والمعتر، فقال: القانع الذي يقنع بما أعطي، والمعتر الذي يعترى بالأبواب، قال: أما سمعت قول زهير:
عَلَى مُكْثريهمُ حَقُّ مَنِ يَعتريهم ** وَعِنْدَ المُقِلِّينَ السَّمَاحَةُ وَالبَذْلُ

وقال مجاهد: القانع جارك وإن كان غنيًّا.
ثم قال تعالى: {كذلك سخرناها لَكُمْ}، أي ذللناها لكم وهي البدن.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}، يعني: لكي تشكروا رب النعمة.
قوله عز وجل: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا}، وذلك أن أهل الجاهلية، كانوا إذا نحروا البدن عند زمزم، أخذوا دماءها، ولطخوها حول الكعبة، وعلقوا لحومها بالبيت، وقالوا: اللهم تقبل منا.
فأراد المسلمون أن يفعلوا ذلك، فنزل: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا}، يعني: لن يصل إلى الله عز وجل لحومها ولا دماؤها.
{ولَكِن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ}، أي يصل إليه التقوى من أعمالكم الزاكية والنية الخالصة.
قرأ الحضرمي: {لَن تَنَالُواْ الله} بالتاء، لأن لفظ اللحوم مؤنثة، ولَكِن تناله بالتاء، لأن لفظ التقوى مؤنث، وقراءة العامة بالياء، وانصرف إلى المعنى، لأن الفعل مقدم.
ثم قال: {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ}، يعني: ذلَّلها لكُم، {لِتُكَبّرُواْ الله}؛ يقول: لتعظموا الله {على مَا هدَاكُمْ}، يعني: أرشدكم لأمر دينه.
{وَبَشّرِ المحسنين} بالجنة، فمن فعل ما ذكر في هذه الآيات، فهو محسن؛ ويقال: المحسن الذي يحسن الذبيحة فيختار بغير عيب. اهـ.